بعد تأديتهم العمرة عاد نضال بكفني والدية وصورٍ ترافق الذاكرة



حشد كبير من الناس ينتظرون أن تدق ساعـة العودة لتراب الوطـن ، عرق يتصبب من جبهاتهم لكن نورا خفياً يشع من عيونِهم ليرويَ مقدار الطهر والنقاء بعد رحلـة إيمانيـة دامت عشـرةَ أيام .

أدى معتمرون مديـنة جنين صلاة الجمعـة ظهر الخامس عشـر من شهر آذار في المسجد النبوي بالمدينة المنورة وإنتظروا قدوم الحافلات لأكثر من سـاعة عند المخرج الأخير الباب رقم 7 ، فأي حكـايـة لهذا المخرج ،من كان يدري بأن عيناي طوال الوقت ينظران للرقم 7 ، لم أدري حينها ما هو الشعور الذي تمالكني وكـأن هاجساً في قلبي يقول لي أنها المحطة الأخيرة التي ستجمع الأمـة كلها هنا في هذا المكان وللمرة الأخيرة .
بعيون كالون الجمـر ودموعٍ لم تجف بعد يروي نضال السمودي من قرية اليامون أحدُ الناجين بجسـده والفاقد لجزء من روحـه بفقده أمــه وأبيــه في حادث سير الشونه العدسية في الأردن .
يتنهد قليلا مستذكرا مشهد صعودهم للحافلـة ويقول : أمسكتُ بيد والدتي وأم زوجتي وأصعدتهن للحافلـة ثم أصعدت والدي ووالد زوجتي فأجلستهم بجانبِ بعضهم بحيث أنهم أخذوا المقاعد الأربع الآولى ، وبعد أن إطمئنتتُ عليهم ووضعت كافـة أمتعتنا في صندوق الحافلـة لم أجد مكانا بجانبهم فجلست في آخر حافلـة الموت هكذا أسماها السمودي ، جلس الجميع في مقاعدهم وسارت الحافلة على بركـة الله .

يقول : لن يغيب عن ذاكرتي ما دمت حياً السعادة الواضحـة على وجوه الناس ولم أدري حينها أسعادتهم هذه سببها الإستعداد للعودة إلى الديار أم هي سعادة لطهرهم ونقاء أرواحهم التي عادت لا تحمل في جوفها إلا حنيناً للأهل والوطــن ومزيدا من مشاعر القرب إلى الله ورسولـه
 .
شددنا الرحال لفلسطين والجميع يرددون "الله يطعمنا زيارة بيتك الحرام كمان مره " .
سرح نضال قليلاً وتابع حديثه بإبتسامـه ذكرى ممزوجـة بالحزن الذي لم يفارق وجهه طوال حديثـه يقول:  جميع الذين زاروا المكان إستنشقوا رائحـة تراب هذا المكان عشـقا وتعلقوا بمنظر الكعبـة وأسوار

المديــنة شوقا ، لأن في ذاك المكان لا تجد إلا راحــة وطمأنيــنـة هناك عالم آخـر من الإيمان وعالم ثاني من إستذكار رحمــة الله وعظيم ثوابــه ..
سرنا من المدينـة بإتجــاه الصحــراء المليــئـة بالصخور وكنت مستغرباً جدا من وجود الصخور فيها وتسآءلت صحراء وفيها صخر ؟ ثم واصلنا المســير طويلا وكنت طوال الوقت أشعر بالإختناق من المكان فأنا لم أعتد يوما على مثل تلك المناظـر فطيلـة الإثني عشر ساعة لم أرى إلا مساحات واســعة جدا من الرمال والصخور بدون عشــبة خضــراء واحدة  أمعن فيها النظــر وطوال الوقت وأنا أحمد الله أني في بلاد الخيـر والخضـار، و في حدود الساعة الواحدة ليلا وصلنا منطقـة عمار وهي منطقـة الحدود مع الأردن ولسـوء الحظ تأشــيرة المعابر الخاصـة بسائق الحافـلة كانت منتهيـة الصلاحيـة مما إضطررنا أن نتـأخــر لأكثر من ساعة ونصـف ، لكن رغم كل العوائق ورغم مسافـة المئتين كيلومتر التي قطعناها بعدما جاء الرد من المعابر للسائق إلا أن المعتمرين جميعهم كانوا فرحين فهم يعلمون بأنهم إن تأخروا ساعة أو حتى ساعتين فمصيرهم أن يصلوا إلى أرض الوطـن .

ظهر فجر جديد وبدأت ألوان النهار تتفتح رويدا رويدا ولم يكن أحدهم يدرك أن مجرد ساعاتٍ قليلة تفصلهم عن عالمٍ آخـر لا رجعة منه أبدا .
ثم يتابع السمودي وصلنا إلى منطقـة معان حيث يوجد مسجد وإستراحـة للمسافرين وذلك في ساعة الفجــر توضئنا وصلينا وإسترحنا قليلا ، عند صعودنا الحافـلة مرة أخــرى ذهبت لأمــي قبلت يدها وسألتها عن أحوالها فقالت لها  إحدى رفقيات رحلتها " أيو يا إم نضال هاي إبنك بسأل عنك فردت أمي طبعا بدو يسأل عني مش أنا إمـه " ثم اخبرتها بأني جوعان وأريد أن أتناول الطعام  فكانت قطعة من الخبز والجــبن آخر شــيء آخذته من يدين أمــي وكانت آخر الكلمات التي سمعتها الله يرضـى عليك يا نضـال .
هنا في هذه اللحظات نضـال غادرني ودون إستئذان وصوت بكاءه في الغرفـة المجاورة لم يغادر ذاكرتي حتى اللحظـه وشعرت وكـأن نضـال  يسمع بخبر وفاة إمـه الآن ثم لحقت زوجــته به مهدأة من روعـة وحزنه وبعد حوالي خمسـة عشر دقيقة عاد معتذرا أنه لم يستطيع السيطرة على نفسـه ثم تابع :
 أكملنا مسيــرنا وبعد ساعتين من المســير وصــلنا إلى منطــقة خضــراء كخـضار سهل مرج ابن عامــر بجنين، في تلك اللحظـات الكل أزاح الستار عن الشبابيك وبدأوا يمتعون أعينهم برؤيـة العشب والجنائــن كانت تلك المناطق التي لم نمضِ فيها إلا ساعتين قبل وقوع الحدث ، المناطق الأكثر روعـة والمناطق الأكثر ونسـا لنا والتي أشعرتنا حقا بأننـا إقتربنا من الوطــن .
هنا صمت نضـال طويلا وطلب من زوجــته أن تصب له مزيدا من الساده ، أمسك بفنجانه وبدأ ينظـر إلى صورة أمــه وأبيــه التي ترفرف في أعلى غرفـة الضيوف ثم أبعد وجهه قليلا وكأنه لا يريد لأحد أن يرى دمعتـه التي كانت كأمواج بحر هادئ سيهيج في لحظة ما .

قلت له ألا تردينا أن نتابع .
فأجابني بلا .. لنتابع ..أمسك بمنديل ورقي محاولا أن يخفي ملامح الوجع والذكـرى التي إرتسمت عليه والتي  لن تفارقـه ما زالت أنفاسـه في جسده ثم تابع قائلا :
ونحن بأمان الله نسـير سمعنا صوت  إنفجار خفيف وشممنا رائحـه بريكات لكن لم نعطيها إهتماما وجميعنا ظـن أن هذا صوت هو صوت طافئـة الحريق التي كانت تصدر نفس الصوت طوال فترة الرحلـة ، وبعد بضع دقائق أحدهم صرخ في الحافلـة قائلا فلت البريك قولوا يا الله فلت لبريك قولوا يا الله . في لحظتها ظننت أن السائق سيسيطر على الحافلــة ويوقفها وأن الوضع طبيعي، ولم يكن لدّي إحتمال 20% أن يحدث ما حدث.
بعد ذلك زادت سرعة الحافلـة بشكل جنونيّ وأصبحت كــسرعة البرق وغير مسيطر عليها، ثم ضربنا بأول سيارة صادفتنا وبدأ الجميع يصرخون بصوت عالٍ وإنكسـر زجاج الحافلـة بالكامل ولم يستطيع بعدها أحد أن يرى أحد وأيقنت أن الموضوع ليس سهلا وأن هذه اللحظات هي لحظاتنا الأخيــرة فبدأت أنادي لوالدي وإمــي وأصرخ بكل ما أملك من القوة والعزم " تعال يابا تعال إنت وإمـي " إرجعوا لورا ولم يكن من والدي إلا أن أشـار لي بيده إرجع إرجع ودير بالك ع حالك وكـأنه يودعني ويوصيني على نفسـي . بعد ذلك لم أعد أرى إلا أناسا تسبح ولم ندرك بعدها مقدمـة الحافله من نهايتها ولا حتى أعلاها من أسفــلها شعرت أنني في داخل خلاط ونحن نضرب بالمقاعد والأشخاص والحقائب .. في وقتها أدركت أننا نحتاج رحمـة الله فقط لأن في وضعنا الذي كنا فيه لا نجاه لنا إلا بقدرة الله ، فبدأت أصرخ إتشاهدوا يا شباب إتشاهدوا ،وبدأت أشعر بثقل في رأســي وألما يزداد ويزداد ولم أكن أعلم أن طيلـة هذه المدة الحافلــة تنقلب بســرعة خياليـة ثم ضربت الحافلـة بقوة رهيــبــة بمحل تجاري ثم هدأ الوضع ووقفت الحافــلة ولم نعد نسمع سوى أصوات أنيـــن الناس وأوجاعهم ، فبدأت أصرخ " يما ردي عَليّ يابا إنكســرت إيدي يابا وينك "
أناس تصرخ ونساء تَإن بصوت منخفض من شدة الألم ، بدأت أطلب المساعدة من الشبان حولي ولم يكن أحد قادر على الحركــة والمــساعدة بعد ذلك سمعت صوت تســرب غاز وبدأ يقوى شيئاً فشيئـاُ فقلت لم أموت في الحادث سأموت في إنفجار" يا روح ما بعدك روح" فجائني عزم شديد وسحبت نفســي بقوة وأنا أشعر بأن روحي تخرج من شدة ألم الكســر في يدي فخرجت من الحافلــة ولم أرى في حينها إلا نصف رجل يخرج جسده من الشباك والنصف الآخر أشلاءً في الداخل ، صرخت بأعلى صوتي" وينك يما وينك يابا ، يما ردي عليّ يابا رد عليّ أنا إنكســرت إيدي وينكم ".. ويبكي ويبكي ويبكي . وفي هذه اللحظات لم يستطع نضال أن يخفي هيجان دموعه فنزلت دموعه على خدة دون قدرة على إخفائها هذه المرة لكــنه تابع بصوت مُخنَق حضرت سيارات الدفاع المدني وسيارات الإسعاف وتم نقلي إلى مشفى الشونــة الجنوبيــة وأعادوا الخلع في يدي فشــعرت ببرودة في جسدي فأردت أن أنســى فنمت حوالي ساعتين دون أشعر بأي شيء يدور حولي ، وبعد الإستيقاظ نقلوني إلى مشفى السلط فطلبت أن أتصل مع إخوتي في الضــفة أخبرتهم بشأن الحادث وأنني بصحــة جيدة لكن والدينا مختفيين وطلبت منهم أن يتصلوا على أقاربنا في الأردن

ليتابعوا الموضوع ، بعد ذلك جاءني خبر أن عمي (والد زوجتي) بصحـة جيده وبعد أن إطمئننت عليـه سألته عن أمي وأبي فقال لي : بأنه لا يعلم عنهما شيء ، ثم جاء أحدهم ليخبرني بأن أبــي توفى فبكيت بحرقــة وإحتسبته شهيدا عند الله ، ودعوت الله أن يحفظ لي أمــي ويبقيها تاجا على رؤسنا ورغم أن حدسي كان يقول لي أن أمي ليست بخيـر إلا أن الإنسان دائما يبقى تحت رحمـة ربـه فبقيت منتظراً الأخبار عن أمــي إلى حلول المغرب ، عندها هاتفتني زوجتي وأخبرتني بأن أمي وأمها إنتقلوا إلى رحمـة الله ، إحتسبت الله مرة أخـرى وبكيت حتى جف الدمع من عيوني .
توجهت صباح يوم الإثنين بعد يومين من وقوع الحادث من المشفـى إلى الجسـر الأردني للعودة إلى أرض الوطـن وطيــلة الوقت للوطـن كنت أدعو الله قائلا " يا رب رميت البلا إرمي الصبر عليّنا ولا تجعلني أنهار أمام إخوتي وخواتي وأولادي" وعند وصولي إلى بيتنا ولقائي لإخوتي لم أستطع أن أتمالك نفسـي وبدأت أبكي وأبكي وأخذت إخوتــي في أحضـاني وأنا أصرخ بعبارة راح الغالي ولكم رااااااااااااح .
في أسبوعي الأول لم أكــن بوعي كامل بكل ما يدور حولي في البيت وكانت أيامي الآولى لا تطاق ، ولم أكن أشعر بالأشخاص الذين يزوروننا في البيت من رجال ونسـاء ، وطوال الوقت وأنا مكتئب حزين لا أتكلم مع أحد ، أسرح فيما حدث معنا محاولا أن أستوعب أنني الآن سأعيش بلا دعوات أمــي وبدون نصائح أبي الذي لطالما كنت المقرب لديـة على إعتبار أنــي ابنه الأول ، حـتى أنني إعتدت أن أدخل البيت وأنادي "وينك يما " ليتكرر معي المشهد بعد وفاة أمي حيث أنني دخلت البيتعدة مرات وقلت وينك يما " فم أكن أسمع سوا صدى صوت زوجتي تقول "إجيت يا نضــال" لأفيق من حلمي وأستذكر أنني الآن في وضع جديد .
نضـال لم يعد بوسـعه أن يتحدث أكثر واختتم جلستنا بقولـه الحمد لله والداي طوال عمرهما معطائين وللخير سباقين ، صعدا إلى عرش الرحمـن كقطـعة القماش البيضـاء ، الحمد لله والداي أنجبا 5 شبان بإذن الله سنمشـي على ممشـاهما فقد عاشا حسنا السمعـة وطيبا القلب ولن نخذلــهما أبدا، وسنكون عند حسن ظن الجميع بأن نستعيد قوانا ونتمالك أنفسنا للوقوف على أقدامنا مرة أخــرى.
الآن أنا بمثابـة ولي أمــر الجميع في العائلـة لي أختين متزوجتين ويعيش ثلاثة من أخوتي في بيت العائلة أكبرهم(20) يدرس الحقوق في المغرب ، والآخر(24عاما) يعمل في أرض والدي ، أما أخـتي الصغرى"آخر العنقود" (17 عاما) فسأحاول بكل جهدي أن أعوضها عن غياب أمـي وأبي وأكون لها أبا وأماً وأخاً وصديقاً بقدر المستطاع ، وأدعو الله بأن يعينني على هذا الحِمل الثقيل وأن يصبر قلوبنا جميعنا وأن يفتح لنا طاقات الأمل في وضعنا الجديد الذي بدأنا نتأقلم عليـه بالرغم من أن غصـة فقدانهما ستبقى للأبد .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا فلسطينية ولن أنجب أطفالًا...

عاد نضال بكفني والدية وصورٍ ترافق الذاكرة .